فصل: تزايد الطاعون في هذه الأيام بالديار المصرية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **


واستمر السلطان ومرضه يتزايد فلما كان يوم الثلاثاء رابع ذي القعدة جمع السلطان الخليفة والقضاة الأربعة والأمراء وأعيان الدولة وعهد بالسلطنة إلى ولده المقام الجمالي يوسف وكتب العهد القاضي شرف الدين أبو بكر نائب كاتب السر لمرض كاتب السر القاضي صلاح الدين بن نصر الله بالطاعون‏.‏

وجلس السلطان بالمقعد الذي أنشأه على باب الدهيشة المطل على الحوش السلطاني وقد أخرج إليه محمولًا من شدة مرضه وضعف قوته ووقف بين يديه الأمير خشقدم اليشبكي مقدم المماليك السلطانية بالحوش ومعه غالب المماليك السلطانية الجلبان والقرانيص وجلس بجانب السلطان الخليفة المعتضد بالله أبو الفتح داود والقضاة والأمير الكبير جقمق العلائي ومن تأخر عن التجريدة من الأمراء بالديار المصرية‏.‏

وقام عبد الباسط لغيبة كاتب السر صلاح الدين بن نصر الله وشدة مرضه بالطاعون وابتدأ بالكلام في عهد السلطان بالملك من بعده لابنه المقام الجمالي يوسف وقد حضر أيضًا يوسف المذكور مع أبيه في المجلس فاستحسن الخليفة هذا الرأي وشكر السلطان على فعله لذلك‏.‏

فقام في الحال القاضي شرف الدين أبو بكر سبط ابن العجمي نائب كاتب السر بالعهد إلى بين يدي السلطان‏.‏

وأشهد السلطان على نفسه أنه عهد بالملك إلى ولده يوسف من بعده وأمضى الخليفة العهد وشهد بذلك القضاة وجعل الأمير الكبير جقمق العلائي هو القائم بتدبير أمر مملكة المقام الجمالي يوسف وأشهد السلطان على نفسه بذلك أيضًا في العهد‏.‏

ثم التفت السلطان إلى جهة الحوش وكلم الأمير خشقدم مقدم المماليك وقصد يسمع ذلك القول للمماليك السلطانية الجلبان بكلام طويل محصوله يعتب عليهم فيما كانوا يفعلونه في أيامه وأنه كان تغير عليهم ودعا عليهم فأرسل الله تعالى عليهم الطاعون في سنتي ثلاث وثلاثين ثم إحدى وأربعين فمات منهم جماعة كبيرة والآن قد عفا عنهم‏.‏

ثم أوصاهم بوصايا كثيرة منها أن يكونوا في طاعة ولده وأن لا يغيروا على أحد من الأمراء وأن لا يختلفوا فيدخل فيهم الأجانب فيهلكوا وأشياء من ذلك كثيرة سمعتها من لفظه لكن لم أحفظ أكثرها لطول الكلام‏.‏

ثم أخذ يعرف الجميع القرانيص والجلبان أنه يموت وأنه كان عندهم ضيفًا وقد أخذ في الرحيل عنهم وبكى فأبكى الناس وعظم الضجيج من البكاء ثم أمر لهم بنفقة لجميع المماليك السلطانية قاطبة لكل واحد ثلاثين دينارًا فقبل الجميع الأرض وضجوا له بالدعاء بعافيته وتأييده كل ذلك وهو يبكي وعقله صحيح وتدبيره جيد‏.‏

وفي الحال جلس كاتب المماليك واستدعى اسم واحد واحد وقد صرت النفقة المذكورة حتى أخذوا الجميع النفقة فحسن ذلك ببال جميع الناس وكانت جملة النفقة مائة وعشرين ألف دينار وانفض المجلس وحمل السلطان وأعيد إلى مكانه‏.‏

ثم في يوم الجمعة سابع ذي القعدة خلع السلطان على الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله باستقراره في كتابة السر بعد موت ولده صلاح الدين محمد بن حسن بن نصر الله بالطاعون وخلع أيضًا في اليوم المذكور على نصر الدين علي السويفي إمام السلطان باستقراره محتسب القاهرة بعد موت دولات خجا بالطاعون وفرح الناس بموته كثيرًا‏.‏

و

 تزايد الطاعون في هذه الأيام بالديار المصرية

وظواهرها حتى بلغ عدة من صلي عليه بمصلاة باب النصر فقط في يوم واحد أربعمائة ميت وهي من جملة إحدى عشرة مصلاة بالقاهرة وظواهرها‏.‏

وأما الأمراء المجردون إلى البلاد الشامية فإنهم كانوا في هذا الشهر رحلوا من أبلستين وتوجهوا إلى آق شهر حتى نزلوا عليها وحصروها وليس لهم علم بما السلطان فيه‏.‏

ثم اشتد مرض السلطان في يوم الثلاثاء خامس عشرين ذي القعدة واحتجب عن الناس ومنع الناس قاطبة من الدخول عليه سوى الأمير إينال الأبو بكري الأشرفي شاد الشراب خاناه وعلي باي الأشرفي الخازندار وجوهر اللالا الزمام وصار إذا طلع مباشرو الدولة إلى الخدمة السلطانية على العادة يعرفهم هؤلاء بحال السلطان وليس أحد من أكابر الأمراء يطلع إلى القلعة لمعرفتهم بما السلطان فيه من شدة المرض وأيضًا لكثرة الكلام في المملكة‏.‏

وقد صارت المماليك طوائف وتركوا التسيير إلى خارج القاهرة وجعلوا دأبهم التسيير بسوق الخيل تحت القلعة والكلام في أمر السلطان‏.‏

وبطلت العلامة وتوقف أحوال الناس لاختلاط عقل السلطان من غلبة المرض عليه وخيفت السبل ونقل الناس أقمشتهم من بيوتهم إلى الحواصل مخافة من وقوع فتنة‏.‏

وأخذ الطاعون يتناقص في هذه الأيام وهو أوائل ذي الحجة ومرض السلطان يتزايد‏.‏

وكان ابتداء مرض السلطان ضعف الشهوة للأكل فتولد له من ذلك أمراض كثيرة آخرها نوع من أنواع الملنخوليا وكثر هذيانه وتخليطه في الكلام ولازمه الأرق والسهر مع ضعف قوته‏.‏

هذا مع أن المماليك في هذه الأيام صاروا طائفة وطائفة‏:‏ فطائفة منهم يريدون أن يكون الأمير الكبير جقمق العلائي هو مدبر المملكة كما أوصاه الملك الأشرف وهم الظاهرية البرقوقية والناصرية والمؤيدة والسيفية وطائفة وهم الأشرفية يريدون الاستبداد بأمر ابن أستاذهم كل ذلك من غير مفاوضة في الكلام‏.‏

وبلغ الأمير إينال الأبو بكري المشد ذلك وكان أعقل المماليك الأشرفية وأمثلهم وأعلمهم فأخذ في إصلاح الأمر بين الطائفتين بأن طيب المماليك الأشرفية إلى الحلف على طاعة ابن السلطان والأمير الكبير جقمق العلائي حتى أذعنوا ورضوا‏.‏

فتولى تحليفهم القاضي شرف الدين نائب كاتب السر وحلف الجميع ثم نزل عبد الباسط إلى الأمير الكبير جقمق وحلفه على طاعة السلطان وبعد تحليفه نزل إليه الأمير إينال المشد والأمير علي باي الخازندار وقبل كل منهما يده بمن معهما من أصحابهما فأكرمهم جقمق ووعدهم بكل خير وعادوا إلى القلعة وسكن الناس وبطل الكلام بين الطائفتين‏.‏

فلما كان يوم الأربعاء عاشر ذي الحجة وهو يوم عيد النحر خرج المقام الجمالي يوسف ولي العهد الشريف وصلى صلاة العيد بجامع القلعة وصلى معه الأمير الكبير جقمق العلائي وغالب أمراء الدولة ومشوا في خدمته بعد انقضاء الصلاة والخطبة حتى جلس على باب الستارة وخلع على الأمير الكبير جقمق وعلى من له عادة بلبس الخلع في يوم عيد النحر ثم نزلوا إلى دورهم وقام المقام الجمالي ونحر ضحاياه بالحوش السلطاني‏.‏

هذا وقد حصل للسلطان نوب كثيرة من الصرع حتى خارت قواه ولم يبق إلا أوقات يقضيها واستمر على ذلك والإرجاف يتواتر بموته في كل وقت إلى أن مات قبيل عصر يوم السبت ثالث عشر ذي الحجة من سنة إحدى وأربعين وثمانمائة وسنه يوم مات بضع وستون سنة تخمينًا فارتجت القلعة لموته ساعة ثم سكنوا‏.‏

وفي الحال حضر الخليفة والقضاة الأربعة والأمير الكبير جقمق العلائي وسائر أمراء الدولة وسلطنوا المقام الجمالي يوسف ولقبوه بالملك العزيز يوسف حسبما يأتي ذكره في محله‏.‏

ثم أخذ الأمراء في تجهيز السلطان فجهز وغسل وكفن بحضرة الأمير إينال الأحمدي الفقيه الظاهري برقوق أحد أمراء العشرات بوصية السلطان له وهو الذي أخرج عليه كلفة تجهيزه وخرجته من مال كان الأشرف دفعه إليه في حياته وأوصاه أن يحضر غسله وتكفينه ودفنه‏.‏

ولما انتهى أمر تجهيز الملك الأشرف حمل من الدور السلطانية إلى أن صلي عليه بباب القلعه من قلعة الجبل وتقدم للصلاة عليه قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن حجر لكون الخليفة كان خلع عليه خلعة أطلسين التي خلعها عليه ملك العزيز‏.‏

ثم حمل من المصلى على أعناق الخاصكية والأمراء الأصاغر إلى أن دفن بتربته التي أنشأها بالصحراء خارج القاهرة وحضرت أنا الصلاة عليه ودفنه وكانت جنازته مشهودة بخلاف جنائز الملوك ولم يقع في يوم موته اضطراب ولا حركة ولا فتنة ونزل إلى قبره قبيل المغرب‏.‏

وكان مدة سلطنته بمصر سبع عشرة سنة تنقص أربعة وتسعين يومًا وتسلطن بعده ابنه الملك العزيز يوسف المقدم ذكره بعهد منه إليه‏.‏

وخلف الملك الأشرف من الأولاد العزيز يوسف وابنًا آخر رضيعًا أو حملًا وهما في قيد الحياة الى يومنا هذا‏.‏

فأما العزيز فمسجون بثغر الإسكندرية وأما الأخر فاسمه أحمد عند عمه زوج أمه الأمير قرقماس الأشرفي رأس نوبة وهو الذي تولى تربيته ومن أجل المقام الشهابي أحمد هذا كانت الفتنة بين المماليك الأشرفية والمماليك الظاهرية في الباطن لما أراد الظاهرية إخراجه إلى الإسكندرية‏.‏

وأما من مات من أولاد الملك الأشرف فكثير وخلف من الأموال‏.‏

التحف والخيول والجمال والسلاح شيئًا كثيرًا إلى الغاية‏.‏

وكان سلطانًا جليلًا سيوسًا مدبرًا عاقلًا متجملًا في مماليكه وخيوله‏.‏

وكانت صفته أشقر طويلًا نحيفًا رشيقا منور الشيبة بهي الشكل غير سباب ولا فحاش في لفظه حسن الخلق لين الجانب حريصًا على إقامة ناموس الملك يميل إلى الخير يحب سماع تلاوة القرآن العزيز حتى إنه رتب عدة أجواق تقرأ عنده في ليالي المواكب بالقصر السلطاني دوامًا‏.‏

وكان يكرم أرباب الصلاح ويجل مقامهم وكان يكثر من الصوم في الصيف والشتاء فإنه كان يصوم في الغالب يوم الثالث عشر من الشهر والرابع عشر والخامس عشر يديم على ذلك‏.‏

وكان يصوم أيضًا أول يوم في الشهر وآخر يوم فيه مع المواظبة على صيام يومي الاثنين والخميس في الجمعة حتى إنه كان يتوجه في أيام صومه إلى الصيد ويجلس على السماط وهو صائم ويطعم الأمراء والخاصكية بيده ثم يغسل يديه بعد رفع السماط كأنه واكل القوم‏.‏

وكان لا يتعاطى المسكرات ولا يحب من يفعل ذلك من مماليكه وحواشيه وكان يحب الاستكثار من المماليك حتى إنه زادت عدة مماليكه المشتروات على ألفي مملوك لولا ما أفناهم طاعون سنة ثلاث وثلاثين ثم طاعون سنة إحدى وأربعين هذا فمات فيهما من مماليكه خلائق‏.‏

وكان يميل إلى جنس الجراكسة على غيرهم في الباطن ويظهر ذلك منه في بعض الأحيان وكان لا يحب أن يشهر عنه ذلك لئلا تنفر الخواطر منه فإن ذلك مما يعاب به على الملوك وكان مماليكه أشبه الناس بمماليك الملك الظاهر برقوق في كثرتهم وأيضًا في تحصيل فنون الفروسية ولو لم يكن من مماليكه إلا الأمير إينال الأبو بكري الخازندار ثم المشد لكفاه فخرًا لما اشتمل عليه من المحاسن ولم يكن في دورنا من يدانيه فكيف يشابهه‏.‏

انتهى‏.‏

وإلى الآن مماليكه هم معظم عسكر الإسلام‏.‏

وكانت أيامه في غاية الأمن والرخاء من قلة الفتن وسفر التجاريد هذا مع طول مدته في السلطنة‏.‏

وعمر في أيامه غالب قرى مصر قبليها وبحريها مما كان خرب في دولة الملك الناصر فرج ثم في دولة الملك المؤيد شيخ لكثرة الفتن في أيامهما وترادف الشرور والأسفار إلى البلاد الشامية وغيرها في كل سنة‏.‏

ومع هذا كله كان الملك الأشرف منغص العيش من جهة الأمير جانبك الصوفي من يوم فر من سجنه بثغر الإسكندرية في سابع شعبان سنة ست وعشرين وثمانمائة إلى أن مات جانبك قبل موته في سنة أربعين وثمانمائة حسبما تقدم ذكره‏.‏

وكان الأشرف يتصدى للأحكام بنفسه ويقتدي في غالب أموره بطريق الملك المؤيد شيخ غير أنه كان يعيب على المؤيد سفه لسانه إلا الملك الأشرف فإنه كان لا يسفه على أحد من مماليكه ولا خدمه جملة كافية فكان أعظم ما شتم به أحدًا أن يقول له‏:‏ حمار وكان ذلك في الغالب يكون مزحًا‏.‏

ولقد داومت خدمته من أوائل سلطنته إلى أن مات ما سمعته أفحش في سب واحد بعينه كائن من كان‏.‏

وفي الجملة كانت محاسنه أكثر من مساوئه‏.‏

وأما ما ذكره عنه الشيخ تقي الدين المقريزي في تاريخ من المساوىء فلا أقول إنه مغرض في ذلك بل أقول بقول القائل‏:‏ الطويل ومن ذا الذي ترضي سجاياه كلها كفى المرء فخرًا أن تعد معايبه وكان الأليق الإضراب عن تلك المقالة الشنعة في حقه من وجوه عديدة غير أن الشيخ تقي الدين كان ينكر عليه أمورًا منها انقياده إلى مباشري دولته في مظالم العباد ومنها شدة حرصه على المال وشرهه في جمعه‏.‏

وأنا أقول في حق الملك الأشرف ما قلته في حق الملك الظاهر برقوق فيما تقدم فهو بخيل بالنسبة لمن تقدمه من الملوك وكريم بالنسبة لمن جاء بعده إلى يومنا هذا وما أظرف قول من قال‏:‏ الكامل ما إن وصلت إلى زمان آخر إلا بكيت على الزمان الأول وأما قول المقريزي‏:‏ وانقياده لمباشريه يشير بذلك إلى الزيني عبد الباسط فإنه كان يخاف على ماله منه فلا يزال يحسن له القبائح في وجوه تحصيل المال ويهون عليه فعلها حتى يفعلها الأشرف وينقاد إليه بكليته وحسن له أمورًا لو فعلها الأشرف لكان فيها زوال ملكه ومال الأشرف إلى شيء منها لولا معارضة قاضي القضاة بدر الدين محمود العيني له فيها عندما كان يسامره بقراءة التاريخ فإنه كان كثيرًا ما يقرأ عنده تواريخ الملوك السالفة وأفعالهم الجميلة ويذكر ما وقع لهم من الحروب والخطوب والأسفار والمحن ثم يفسر له ذلك باللغة التركية وينمقها بلفظه الفصيح ثم يأخذ في تحبيبه لفعل الخير والنظر في مصالح المسلمين ويرجعه عن كثير من المظالم حتى لقد تكرر من الأشرف قوله في الملأ‏:‏ لولا القاضي العيني ما حسن إسلامنا ولا عرفنا كيف نسير في المملكة‏.‏

وكان الأشرف اغتنى بقراءة العيني له في التاريخ عن مشورة الأمراء في المهمات لما تدرب بسماعه للوقائع السالفة للملوك‏.‏

قلت‏:‏ وما قاله الأشرف في حق العيني هو الصحيح فإن الملك الأشرف كان أميًا صغير السن لما تسلطن بالنسبة لملوك الترك الذين مسهم الرق فإنه تسلطن وسنه يوم ذاك نيف على أربعين سنة وهو غر لم يمارس التجارب ففقهه العيني بقراءة التاريخ وعرفه بأمور كان يعجز عن تدبيرها قبل ذلك منها‏:‏ لما كسرت مراكب الغزاة في غزوة قبرس فإن الأشرف كان عزم على تبطيلها في تلك السنة ويسيرها في القابل حتى كلمه العيني في ذلك وحكى له عدة وقائع صعب أولها وسهل آخرها فلذلك على أنه كان لا يداخله في أمور المملكة البتة بل كان مجلسه لا ينقضي معه إلا في قراءة التاريخ وأيام الناس وما أشبه ذلك ومن يوم ذاك حبب إلي التاريخ وملت إليه واشتغلت به انتهى‏.‏

وقد تقدم الكلام على أصل الملك الأشرف وكيف ملكه السلطان الملك الظاهر برقوق وعلى نسبته بالدقماقي في أول ترجمته فلا حاجة للعيادة هنا ثانيًا‏.‏

انتهى ترجمة الملك الأشرف برسباي رحمه الله تعالى‏.‏

السنة الأولى من سلطنة الأشرف برسباي وهي سنة خمس وعشرين وثمانمائة على أن الملك الصالح محمد ابن ملك الظاهر ططر حكم منها إلى ثامن شهر ربيع الآخر ثم حكم في باقيها الملك الأشرف هذا‏.‏

وفيها أعني سنة خمس وعشرين المذكورة توفي الشيخ الإمام العالم بدر الدين محمود ابن الشيخ الإمام شمس الدين محمد الأقصرائي الحنفي في ليلة الثلاثاء خامس المحرم ولم يبلغ الثلاثين من العمر‏.‏

وكان بارعًا ذكيًا فاضلًا فقيهًا مشاركًا في عدة فنون حسن المحاضرة مقربًا من الملوك‏.‏

وكان يجالس الملك المؤيد شيخًا وينادمه ثم عظم أمره عند الملك الظاهر ططر واختص به إلى الغاية وتردد الناس إلى بابه ورشح إلى الوظائف السنية فعاجلته المنية ومات بعد مدة يسيرة‏.‏

وتوفي الشيخ علاء الدين علي ابن قاضي القضاة تقي الدين عبد الرحمن الزبيري الشافعي في ليلة الأحد ثالث المحرم وقد أناف على ستين سنة بعد أن ناب في الحكم ودرس بعدة مدارس وبرع في الحساب والفرائض‏.‏

وتوفي الأمير سيف الدين آق خجا بن عبد الله الأحمدي الظاهري وهو يلي كشف بالوجه القبلي في العشرين من المحرم‏.‏

وكان تركي الجنس أصله من مماليك الملك الظاهر برقوق وترقى حتى صار من جملة أمراء الطبلخاناه وحاجبًا ثانيًا وتولى الكشف بالوجه القبلي ومات هناك‏.‏

ولم يكن من المشكورين‏.‏

وتوفي الشيخ المحدث شمس الدين محمد بن أحمد بن معالي الحبتي الحنبلي الدمشقي في يوم الخميس ثامن عشرين المحرم‏.‏

وكان يقرأ البخاري عند سلطان وهو أحد فقهاء الحنابلة وأحد ندماء الملك المؤيد شيخ وأصحابه قديمًا ولاه مشيخة المدرسة الخروبية بالجيزة‏.‏

وتوفي مقرىء زمانه العلامة شمس الدين محمد بن علي بن أحمد المعروف بالزراتيني الحنفي إمام الخمس بالمدرسة الظاهرية برقوق في يوم الخميس سادس جمادى الآخرة وقد جاوز سبعين سنة بعد أن كف بصره وانتهت إليه الرئاسة في الإقراء بالديار المصرية ورحل إليه من الأقطار‏.‏

وتوفي الأمير بدر الدين حسن بن السيفي سودون الفقيه الظاهري صهر الملك الظاهر ططر وخال ولده الملك الصالح المقدم ذكره وهو أحد مقدمي الألوف بالديار المصرية في يوم الجمعة ثالث عشر صفر بقلعة الجبل في حياة والده سودون الفقيه‏.‏

وكان والده سودون الفقيه حمو الملك الظاهر ططر جنديًا لم يتأمر وصار ولده حسن هذا أمير مائة ومقدم ألف قلم تطل أيامه في السعادة فإنه كان أولًا بخدمة صهره الملك الظاهر ططر فلما تسلطن أنعم عليه بإمرة طبلخاناه دفعة واحدة ثم نقله بعد مدة يسيرة إلى إمرة مائة وتقدمة ألف فعاجلته المنية ومات بعد مرض طويل‏.‏

قلت وهو مثل‏:‏ إلى أن يسعد المعتر فرغ عمره‏.‏

وكان حسن المذكور شابًا جميلًا حسن الشكالة إلا أنه كان بإحدى عينيه خلل‏.‏

وتوفي الشيخ الإمام العالم برهان الدين إبراهيم بن أحمد بن علي البيجوري الشافعي في يوم السبت رابع عشر شهر رجب وقد أناف على السبعين سنة ولم يخلف بعده أحفظ منه لفروع فقه مذهبه مع قلة الاكتراث بالملبس والتقشف وعدم الالتفات إلى الرئاسة‏.‏

وتوفي مقدم العشير بالبلاد الشامية بدر الدين حسن بن أحمد المعروف بابن بشارة في سابع ذي الحجة وكان له رئاسة ضخمة بالنسبة لأبناء جنسه وثروة ومال كثير‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ السنة الثانية من سلطنة الأشرف برسباي وهي سنة ست وعشرين وثمانمائة‏.‏

فيها توفي قاضي القضاة بالمدينة النبوية ناصر الدين عبد الرحمن محمد بن صالح في ليلة السبت رابع عشرين صفر‏.‏

وكان من الفقهاء أعيان أهل المدينة‏.‏

وتوفي تاج الدين فضل الله بن الرملي القبطي ناظر الدولة في يوم حادي عشرين صفر بعدما باشر وظيفة نظر الدولة عدة سنين وسئل بالوزارة غير مرة فامتنع واستمر على وظيفته ومات وقد أناف على الثمانين سنة‏.‏

قال المقريزي‏:‏ وكان من ظلمة الأقباط وفساقهم‏.‏

وتوفي الأمير ناصر الدين بك محمد بن علي بك بن قرمان متملك بلاد قرمان في صفر من حجر أصابه في حربه مع عساكر خوندكار مراد بك بن عثمان متملك برصا‏.‏

وكان ابن قرمان هذا أسر في أيام الملك المؤيد شيخ حسبما ذكرناه في ترجمة الملك المؤيد وحبس بقلعة الجبل إلى أن أفرج عنه الملك الظاهر ططر بعد موت الملك المؤيد شيخ حسبما ذكرناه في ترجمة المؤيد ووجهه إلى بلاده أميرًا عليها وأولاد قرمان هؤلاء هم من ذرية السلطان علاء الدين كيقباد السلجوقي المقدم ذكره في هذا التاريخ في محله انتهى‏.‏

وتوفي الأمير علاء الدين قطلوبغا بن عبد الله التنمي أحد أمراء الألوف بالديار المصرية ثم نائب صفد بطالًا بدمشق في ليلة السبت سادس عشر شهر ربيع الأول‏.‏

وأصله من مماليك الأمير تنم الحسني نائب الشام ورقاه الملك المؤيد لكون الملك المؤيد كان تزوج ببنت تنم فصار لذلك حواشي تنم كأحد أصحابه‏.‏

وتوفي قاضي القضاة مجد الدين سالم المقدسي الحنبلي في يوم الخميس تاسع عشرين ذي القعدجة وقد بلغ الثمانين وتكسح وتعطل عدة سنين‏.‏

وكان معدودًا من فقهاء الحنابلة وخيارهم‏.‏

وتوفيت خوند زينب بنت السلطان الملك الظاهر برقوق وزوجة الملك المؤيد شيخ ثم من بعده الأتابك قجق العيساوي وماتت تحته في ليلة السبت ثامن عشرين شهر ربيع الآخر‏.‏

وهي آخر من بقي من أولاد الملك الظاهر برقوق لصلبه وأمها أم ولد رومية‏.‏

وتوفي الأمير سيف الدين تنبك بن عبد الله العلائي الظاهري المعروف بتنبك ميق نائب الشام بها في يوم الاثنين ثامن شعبان‏.‏

وتولى نيابة دمشق من بعد الأمير تنبك البجاسي نائب حلب الآتي ذكره‏.‏

وكان تنبك ميق أصله من مماليك الملك الظاهر برقوق وترقى بعد موته إلى أن صار أمير مائة ومقدم ألف في دولة الملك المؤيد شيخ ثم صار رأس نوبة النوب ثم أمير آخور كبيرًا ثم ولاه نيابة دمشق بعد مسك آقباي المؤيدي ثم عزله بعد سنين وأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية ولا زال على ذلك حتى خلع عليه الملك الظاهر ططر باستقراره في نيابة دمشق ثانيًا بعد جقمق الأرغون شاوي الدوادار فأقام على نيابة دمشق إلى أن مات في التاريخ المذكور‏.‏

وكان من أكابر المماليك الظاهرية غير أنه لم يشهر بدين ولا شجاعة‏.‏

وتوفي الحافظ قاضي القضاة ولي الدين أبو زرعة أحمد ابن الحافظ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن إبراهيم العراقي الشافعي مصروفًا عن القضاء في يوم الخميس سابع عشرين شعبان‏.‏

ومولده في ثالث ذي الحجة سنة اثنتين وستين وسبعمائة‏.‏

واعتنى به والده الحافظ زين الدين عبد الرحيم وأسمعه الكثير ونشأ وبرع في علم الحديث ثم غلب عليه الفقه فبرع فيه أيضًا وأفتى ودرس سنين وتولى نيابة الحكم بالقاهرة ثم تنزه عن ذلك ولزم داره مدة طويلة إلى أن طلبه السلطان وخلع عليه باستقراره قاضي قضاة الديار المصرية بعد وفاة شيخ الإسلام قاضي القضاة جلال الدين عبد الرحمن البلقيني في شوال سنة أربع وعشرين وثمانمائة فباشر القضاء بعفة وديانة وصيانة إلى أن صرف بقاضي القضاة علم الدين صالح البلقيني فلزم داره إلى أن مات‏.‏

ولم يخلف بعده مثله في جمعه بين الفقه والحديث والدين والصلاح‏.‏

وله مصنفات كثيرة ذكرناها في ترجمته في تاريخنا المنهل الصافي إذ هو محل وتوفي الرئيس علم الدين داؤد بن عبد الرحمن بن الكويز الكركي الأصل الملكي كاتب السر الشريف بالديار المصرية في يوم الاثنين سلخ شوال ولم يبلغ الخمسين سنة ودفن خارج القاهرة‏.‏

وكان اتصل بخدمة الملك المؤيد بالبلاد الشامية وخدم في ديوانه وعرف به فلما تسلطن ولاه بعد مدة نظر الجيش بالديار المصرية سنين إلى أن نقل إلى كتابة السر في أيام الملك الظاهر ططر بعد عزل صهره القاضي كمال الدين البارزي بسعيه في ذلك فلم يشكر على فعلته ونقل كمال الدين المذكور إلى وظيفة نظر الجيش عوضًا عنه‏.‏

وقد تقدم ذلك كله في أصل ترجمة الملك الأشرف مفصلًا فلينظر هناك ودام علم الدين هذا في وظيفة كتابة السر سنين إلى أن مات في التاريخ المقدم ذكره‏.‏

وكان عاقلًا دينًا رئيسًا ضخمًا وجيهًا في الدول غير أنه كان عاريًا من كل علم وفن لا يعرف إلا قدم الديونة كما هي عادة الكتبة وتولى كتابة السر من بعده جمال الدين يوسف بن الصفي الكركي فعظمت المصيبة بولاية جمال الدين هذا لهذه الوظيفة الشريفة التي هي الآن أعظم رتب المتعددين لكونه غاية في الجهل وعديم المعرفة بهذا الشأن وغيره‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ثمانية أذرع وعشرة أصابع‏.‏

مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعًا وثلاثة وعشرون أصبعًا‏.‏

وهي سنة سبع وعشرين وثمانمائة‏:‏ فيها خرج الأمير تنبك البجاسي عن الطاعة وهو على نيابة دمشق وقاتله سودون من عبد الرحمن وظفر به وقطع رأسه وبعث به إلى الديار المصرية وقد تقدم ذكر ذلك كله في أصل ترجمة الملك الأشرف ويأتي ذكر تنبك البجاسي في وفيات هذه السنة‏.‏

وفيها قبض الملك الأشرف على الأتابك بيبغا المظفري وحبسه بالإسكندرية وقد تقدم أيضًا‏.‏

وفيها مات قتيلًا الأمير تنبك بن عبد الله البجاسي نائب الشام بعد خروجه عن الطاعة في أول شهر ربيع الأول وهو أحد من ترقى في الدولة الناصرية فخرج ثم ولاه الملك المؤيد شيخ نيابة حماه فخرج عن طاعته مع الأمير قاني باي العلائي نائب الشام والأمير إينال الصصلاني نائب حلب وغيرهما من النواب ودام معهما إلى أن انكسرا وقبض عليهما ففر تنبك هذا مع من فر من الأمراء إلى قرا يوسف ببلاد الشرق فقام عنده هو والأمير سودون من عبد الرحمن والأمير طرباي إلى أن قدموا على الأمير ططر بالبلاد الشامية في دولة الملك المظفر أحمد ثم لما تسلطن ططر ولاه نيابة حماه ثانيًا ثم نقله الملك الأشرف إلى نيابة حلب بعد تغري بردي أخي قصروه وتولى بعده نيابة حماة أغاته جارقطلو‏.‏

والعجيب أن جارقطلو المذكور كان أغاة تنبك البجاسي وولى بعده نيابة حماه مرتين‏:‏ الأولى في الدولة المؤيدية والثانية في دولة ططر ثم نقل تنبك البجاسي إلى نيابة الشام بعد موت الأمير تنبك ميق فلم تطل مدته بها وخرج عن الطاعة وتولى سودون من عبد الرحمن نيابة الشام عوضه وقاتله حسبما تقدم ذكره حتى ظفر به وقتله‏.‏

وكان تنبك شابا جميلًا شجاعًا مقدامًا وهو أستاذ جميع البجاسية أمراء زماننا هذا بمصر والشأم‏.‏

وتوفي الإمام العلامة شرف الدين يعقوب بن جلال الدين رسولا بن أحمد بن يوسف التباني الحنفي شيخ شيوخ خانقاه شيخون في يوم الأربعاء سادس عشر صفر وكان فقيهًا بارعًا في العربية والأصول وعلمي المعاني والبيان والعقليات واختص بالملك المؤيد شيخ اختصاصًا كبيرًا وتولى نظر الكسوة ووكالة بيت المال ومشيخة خانقاه شيخون وأفتى ودرس واشتغل وصنف عدة سنين وكان معدودًا من علماء الخنفية‏.‏

وتوفي الوزير تاج الدين عبد الرزاق بن شمس الدين بن عبد الله المعروف بابن كاتب المناخ في يوم الجمعة حادي عشرين جمادى الأولى وهو غير وزير وابنه الصاحب كريم الدين عبد الكريم قد ولى الوزر في حياته وكان جد أبيه باشر دين النصرانية ثم حسن إسلام آبائه وكان مشكور السيرة في ولايته للوزارة لكنه استجد في أيام ولايته مكس الفاكهة ثم عزل بعد مدة يسيرة وصار ذلك في صحيفته إلى يوم القيامة‏.‏

قلت‏:‏ هذا هو الشقي الذي ظلم الناس لغيره‏.‏

وتوفي الأمير سيف الدين سودون بن عبد الله الظاهري المعروف بالأشقر وهو أحد أمراء دمشق بها في جمادى الأولى‏.‏

وكان ولي شاد الشراب خاناه في الدولة الناصرية ثم صار في الدولة المؤيدية رأس نوبة النوب ثم أمير مجلس ثم نكب وانحط قدره وحبس سنين إلى أن أخرجه الأمير ططر وأنعم عليه بإمرة عشرين بالقاهرة فدام على ذلك إلى أن أخرجه الملك الأشرف برسباي إلى الشأم على إمرة مائة وتقدمة ألف فدام بدمشق إلى أن مات وكان غير مشكور السيرة في دينه ودنياه‏.‏